كان موكب "الصرّة" المحمل بالهدايا الثمينة والأموال الطائلة ينطلق من القصر العثماني.
يدخل السلطان إلى صالة الديوان ويُتلى القرآن الكريم، ويأتي أغوات الحرم بأكياس ممتلئة بسجلات الصرة السلطانية، ليتم تسليمها إلى أمين الصرة، الذي كان يختاره السلطان من العلماء أو الجند أو الأشراف.
من أنحاء الدولة العثمانية كافة، كانت قوافل الحج الرئيسية تخرج في مواعيد محددة كل عام، في رحلة شاقة طويلة محفوفة بالمخاطر، يتم تخصيص قوة تحرسها يقودها أحد كبار العسكريين، الذي كان يسمى "سَرْدَارُ الحج"، وكان على رأس كل قافلة أمير للحج، وكثيرًا ما كان أمير الحج يتولى قيادة الجيش المرافق للقافلة.
خلال القرنين الخامس العشر والسادس عشر، أشرفت الدولة العثمانيية مباشرة على قوافل الحج المتجهة إلى الحجاز لأداء الشعائر المقدسة، فيما عمل السلاطين العثمانيين على تشييد الطرق وإقامة الحصون، وحفر الآبار على طرق الحج لمساعدة الحجاج في رحلتهم الشاقة.
اسطنبول محطة مهمة في رحلة الحج
كجميع المناطق الأخرى، أظهرت اسطنبول احترامًا كبيرًا للحجاج المتوجهين إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، حيث كانت تقام الاحتفالات لتوديع أولئك الذين سيتجهون لأداء فريضة الحج، وأخرى للترحيب بالعائدين منه.
ولأن الأعداد كانت كبيرة والرحلة طويلة، فقد كان من الضروري تنظيم الطريق الذي سيسلكه الحجاج لتكلل رحلة الحج بالنجاح. وكان الحجاج يأتون من جميع مناطق الإمبراطورية المختلفة إلى اسطنبول، متجهين إلى الأراضي المقدسة على متن السفن، وذلك حتى القرن التاسع عشر.
وخلال سنة 1517، أصبحت العاصمة اسطنبول محطة مهمة في رحلة الحج للعالم الإسلامي بأسره، بعدما ضم السلطان سليم الأول الأراضي المقدسة ضمن الإمبراطورية العثمانية. كان المسلمون يأتون من شبه جزيرة البلقان، وشمال أفريقيا، وآسيا الوسطى، والقوقاز، وأفغانستان، والهند والصين إلى المركز الجديد للخلافة قبل الانطلاق في رحلة الحج.
وكان الحجاج يتعرفون على سكان اسطنبول، ويشترون البضائع التي يحتاجونها. وساعدت الحكومة العثمانية الحجاج على الاستعداد لرحلتهم من خلال توفير دور ضيافة خاصة بهم، وأماكن إقامة للحجاج من أفغانستان وأوزبكستان والهند، وتأمين الطعام لهم ونظافتهم وصحتهم الشخصية، فضلًا عن مساعدتهم في تلبية احتياجاتهم الضرورية لهذه الرحلة.
مخاطر الطريق
واستمرت مواكب الحج تنطلق من اسطنبول حتى اختراع البواخر وفتح قناة السويس. أما الحجاج الذين لا يستطيعون توفير تكاليف رحلة الحج على العربات، فكانوا يقطعون المسافة إلى هناك سيرا على الأقدام.
وفي هذه الحالة، تستغرق الرحلة إلى مكة والمدينة أكثر من سنة، وقد كانت مهمة صعبة.
وكان بعض الحجاج الذين ينطلقون في رحلة الحج يتعرضون لأمراض معدية قبل الوصول إلى الأراضي المقدّسة، أو يلقون حتفهم بسبب هجمات من قبل قطاع الطرق، بينما لا يتحمل البعض الآخر الظروف القاسية فيوارون الثرى في البقاع المقدسة.
وكانت "نافورة إيريليك" الموجودة في مدينة "قاضي كوي" تُمثّل النُقطة الأخيرة في اسطنبول التي يقطعها الأشخاص المُتوجهون إلى الحج. ومن هُناك، تنطلق الحملات العسكرية فضلًا عن الحجاج مصحوبين بالصلوات.
كما يملأ الحجاج المحتملين صهاريج المياه الخاصة بهم من هذه النافورة. ومن جهتهم، يقوم السكان بإلقاء المياه خلفهم وفقا للعادات التركية، داعين إلى عودتهم سالمين.
بعدها، ينضم مزيد من الأشخاص إلى الموكب الذي يتزايد عدده على طول هذه المسافة، وصولًا إلى مدينة قونية، حيث يأخذ الحجاج قسطًا من الراحة لمدة ثلاثة أيام، ثم يتوجهون إلى مدينة أضنة، حيث يستريحون هناك لمدة ثلاثة أيام أخرى.
وبعد انضمام مزيد من الحجاج إلى الموكب، يتوجهون إلى مدينة دمشق، التي كانت تمثل نقطة أمان. وهناك، ينضم حجاج من بلاد فارس والعراق وأذربيجان وغيرها من المقاطعات المجاورة. ويتوجه الموكب جنوبًا مغادرًا دمشق، ويقطع مسافة تقدر بنحو 50 كيلومترًا في اليوم، ليصل أخيرًا إلى مدينة الحجاز بعد رحلة طويلة.
موكب "الصرة" تقليد أشرف عليه السلاطين
أُرسل أول موكب "الصرّة" أو محفظة النقود خلال العهد العباسي إلى مكة والمدينة لتوزيعها على الناس والحجاج في موسم الحج، وحافظ العثمانيون على هذا التقليد.
وكانت هذه المواكب، المحمّلة بالهدايا الثمينة والأموال الطائلة، تنطلق من القصر، ويرسلها القصر ورجال الدولة الأثرياء.
ويدخل السلطان إلى صالة الديوان ويُتلى القرآن الكريم، ويأتي أغوات الحرم بأكياس ممتلئة بسجلات الصرة السلطانية، ليتم تسليمها إلى أمين الصرة، الذي كان يختاره السلطان من العلماء أو الجند أو الأشراف.
ثم يخرج الجميع إلى ساحة القصر الكبيرة حيث يكون الموكب جاهزا للانطلاق، وهو يتألف من مئات الجمال المحملة بالهدايا، ومئات من الفرسان المدججين بالسلاح، وعلى رأس الموكب جمل المحمل، وهو جمل جميل الشكل مهيب البنية لا يستخدم لأي عمل سوى الحج، ويحمل كسوة الكعبة المعظمة والصرة السلطانية.
ويبدأ موكب "الصرة" رحلته الطويلة انطلاقًا من الباب الهُمايوني متجهًا نحو بشكطاش. ومن ثم، كان الموكب يسافر على متن قوارب شراعية كبيرة إلى أسكودار، مرورًا بالحرملك في طريقه إلى الحرمين الشريفين.