مدينة مكة المكرمة الوجهة الأحب لكل المسلمين، فهي مكان يختلف كليًا عن سائر بقاع الأرض، وهي الوجهة التي يقصدها المسلمون حول العالم لأداء مناسك الحج. هذا الأمر أدّى إلى وجود 3 مهن مخصصة فقط لمدينة مكة المكرمة لا توجد في أي مكان آخر في العالم، ويبلغ عمرها أكثر من ألف عام.
السدنة شرف يتوارثه الشيبيون
يتم توارث مهنة سدانة الكعبة المشرفة في قبيلة بني شيبة، منذ أن دفع النبي محمد صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن أبي طلحة من بني شيبة، عند فتح مكة في العام الثامن من الهجرة، معلنًا أن هذا العمل خالدًا في بني شيبة لا ينزعه منهم إلا ظالم، حيث يتوارثه أبناء شيبة حتى وقتنا هذا.
والسدنة كانوا هم الذين يستقبلون كسوة الكعبة، ويستلمونها ويحتفظون بها عندهم في أقبية خاصة داخل الحرم المكي، وكانوا مسؤولين عن تلبيس الكعبة بالكامل. ومن مهمتهم أيضًا العناية بالكعبة المشرفة وحمل مفاتيحها.
وتعود بداية مهنة سدانة الكعبة المشرفة تاريخيًا إلى أمر الله سبحانه وتعالى نبيه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام برفع قواعد البيت الحرام.
وسدانة الكعبة تعني العناية بالكعبة المشرفة والقيام بشؤونها؛ من فتحها وإغلاقها وتنظيفها وغسلها وكسوتها وإصلاح الكسوة إذا تمزقت، واستقبال زوّارها وكل ما يتعلق بذلك، إلى جانب الإشراف على مقام سيدنا إبراهيم، ويطلق البعض عليها كلمة الحجابة.
أما كبير السدنة فهو من يحمل مفتاح الكعبة، ويتلقى الأوامر مباشرة من الديوان الملكي، وتعطى تلك الأوامر عن طريق إمارة مكة، وتفتح الكعبة بطلب من ولي الأمر مرتين؛ الأولى في الأول من شعبان والثانية في 15 من محرم.
وعندما يريدون فتح الكعبة لا يدخل إلا كبير السدنة و25 من السدنة، وتفتح فقط لغسلها أو لظروف استثنائية كإصلاح خلل ما، أو وجود ضيف لدى الملك أو الإمارة، والذين يدخلون الكعبة مدة دقيقتين للصلاة فيها.
وفي حال وفاة كبير السدنة تقام مراسم لتسليم المفتاح لخليفته في اليوم الثالث من عزائه.
الطوافة رفاق الحجاج
مهنة ثانية أخرى لا نجدها إلا في مكة المكرمة، وهي "الطوافة" التي يتمثل دورها في نقل الحجاج وإرشادهم إلى الطرق الصحيحة لأداء المشاعر المقدسة، وأصبح لتلك المهنة لاحقًا مؤسسة رسمية تعمل على وضع الأشخاص المؤهلين لتلك المهمة.
الطِّوافة كلمة مشتقة من الطوّاف، وهي جزءٌ من كلِّ، حيث يهتم المطوفون بكل مناسك الحج وشعائره، وبدأت تلك المهنة مع علماء مكة وفقهائها، وانتقلت من بعدُ إلى أعيانها، حتى استقرت اليوم في عائلات مكة العريقة.
والمطوِّف هو رفيق الحاج وصديقه، اختاره الله سبحانه ليقوم بخدمة ضيوف بيت الله الحرام، وتوعية الحجاج وتعليمهم الشعائر، ومساعدتهم على أداء المناسك.
ومنذ القدم ينتظر المطوفون موسم الحج المقدس من العام إلى العام، حيث يفرحون بقدوم ضيوف الرحمن ويحتفون بهم، في مشهد تختلط فيه المشاعر بين الإنسانية والروحانية والمهنية والأخوّة. وللمطوف دور تاريخي منذ أقدم العصور، حيث كان المطوفون يسافرون إلى البلاد المجاورة، مثل مصر والشام ليتعاقدوا مع الحجاج مبكرًا قبل بدء موسم الحج.
أما المطوِّفة فهي شقيقة الرجال في مهامهم، وهي الظهير الداخلي والجندي المجهول في موسم الحج، إذ تقوم بخدمة الحاجّات وتهتم بشؤونهن من دون أن تظهر، ولا يقتصر دورها على تقديم وجبات الطعام والخدمة، ولكن يتعداها إلى التوعية والتعليم.
وكان للمطوّف مساعدون في مكة وجدة والمدينة المنورة يسمى المُساعد في جدة "الوكيل"، وفي المدينة "الدليل"، وفي مكة "الزمزمي". ويرجع تاريخ تلك المهنة إلى العهد العثماني، وتحديدًا سنة 932هـ، حيث كان الأشراف في الدولة العثمانية يمنحون لأعيان مكة المكرمة شرف الطوافة، ويصدرون وثائق رسمية لهم.
ويقوم المطوفون هذه الأيام بتفويج الحجاج من وإلى الجمرات بحسب جدول معد سلفًا، فيتفقدون أحوالهم الصحية واحتياجاتهم اليومية، وفي ثالث أيام التشريق يجري إدخال الحافلات إلى منى من أجل تفويج الحجاج إلى مكة المكرمة، وإعادة إسكانهم هناك تمهيدًا لترحيلهم إلى مواطنهم الأصلية.
وكان المطوفون يعتمدون اعتمادًا كاملًا في رزقهم على ما تأتي به طوافتهم للحجاج، ذلك أن الحجاج كانوا يأتون للحج لمدة طويلة، فالباخرة الهندية مثلًا كانت تأتي بحجاجها في شهر رجب، وتعود لأخذهم بعد ثلاثة أشهر من انتهاء موسم الحج، وفي نصف السنة الآخر كانت تلك الفترة تسمى فترة "البصارة"، حيث كان المطوفون يشتغلون بإصلاح البيوت التي تستقبل الحجاج وغيرها من الأمور، مثل دهن الجدران بمادة الرخام استعدادًا للحج المقبل.
أما الحجاج وفي نهاية زيارتهم، فكانوا يجتمعون ليفرش أحدهم وعادةً ما يكون حاجًا سبق له الحج، ويسمون بالمعاودين قطعة قماش بيضاء، ويدعو زملاءه لإكرامية المطوف كلُ بما تجود به نفسه، وبعض الحجاج لم يكن يستطيع دفع شيء، واستمرت تلك العادة تقليدًا متبعًا، حتى صدر قانون في عام 1326هـ وجاء فيه أن الحاج الجاوي يدفع جنيهًا عثمانيًا أجرة مسكن بمكة، وعشرة جنيهات هندية يدفعها حاج الهند، وخمسة ريالات مجيدية لأهل الصعيد وغزة والعراق وما إلى ذلك.
الزمازمة المهنة الأكثر صعوبة
المهنة الثالثة هي الزمازمة، وهي مرتبطة بماء "زمزم"، ووظيفة العامل في تلك المهنة تتمثل في الاهتمام بشكل كبير بسقاية الحجاج وزوار بيت الحرام من ماء زمزم. وقد اختلفت مهنة الزمازمة عن ذي قبل، حيث كانت مهمتهم أكثر صعوبة من خلال نقل المياه من بئر زمزم وتخزينها في أوعية فخارية تدعى "الأزيار"، ومن ثم توزيعها على الحجاج وتنظيم شرابهم منها.
وانتشرت عائلات الزمازمة في جميع أنحاء الحرم المكي، قبل انتشار برادات وترامس ماء زمزم في الحرم.
إذ كان لكل عائلة مكان يدعى (الخلوة) يضعون فيه أوانيهم المكونة من الأزيار المغربية، والدوارق والأواني النحاسية، وذلك لسقاية الزائرين والطائفين، فيما كان المطوفون يقومون بالتنسيق مع الزمازمة، لتوفير المياه للحجاج في مساكنهم أيضًا.