أهم وأقدم شبكة مائية في مدينة مكة المكرمة. ظلت تمدّ الحجاج والزوار والمعتمرين وأهل مكة بالمياه لمدة تصل الى ألف ومئتي عام، منذ أن أمرت زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد ببنائها في العام 194 للهجرة ولاتزال آثارها موجودة حتى اليوم
كانت الآبار قديما، هي المصدر الرئيسي للماء في مدينة مكة المكرمة وكذلك في الطرق المؤدية إليها، وكان الحجاج والمعتمرون وزوار مكة عموماً، يعتمدون على هذه الآبار في توفير حاجاتهم من الماء.
يخلط كثيرون بين عين زبيدة وبين درب زبيدة على أنهما مشروع واحد. لكن الحقيقة التاريخية تشير الى أنهما مشروعان منفصلان عن بعضهما، أمرت بإنشائهما "أم الأمين" زبيدة بنت أبي الفضل جعفر بن أبي جعفر المنصور العـباسي زوجة الخليفة العباسي هارون الرشـيد.
فدرب زبيدة هو عبارة عن برك تنتشر في مواضع معينة، وتمتد من بلاد العراق إلى مكة المكرمة، تخزن فيها مياه الأمطار السيول لأطول مدة، ويستفيد المسافرون في تلك الدروب منها.
أما عين زبيدة، فهي قناة من الماء شقت في العام 164هـ، من وادي نعمان شرق مكة إلى مشعر عرفة لتسقي الحاج والمعتمر والمقيم، بعدما شاهدت زبيدة ما يلاقيه الحجاج آنذاك من تعب وجهد، نتيجة شح المياه.
مشروع عملاق منذ إنطلاقه
عندما علمت الأميرة زبيدة بنت جعفر المنصور زوجة الخليفة هارون الرشيد التي ولدت عام 145 هجري، وهي المعروفة بالذكاء، والحكمة، والكرم، والنبل، والفصاحة وحبها لخدمة الناس خصوصاً الفقراء، أمرت بإنشاء برك المياه والآبار على طول طريق الحج من بغداد إلى مكة المكرمة وجعلته للنفع العام (الحجاج وعابري السبيل).
وأمرت زبيدة بحفر قنوات مائية تتصل بمساقط المطر، واشترت جميع الأراضي فـي الوادي، وأبطلت المزارع والنخيل، وأمرت بأن تُشقّ للمياه قناة فـي الجبال، وأمرت بتصميم هذا المشروع العملاق بطرق فنية متطورة تتساوى مع ما توصل إليه اليوم علم الهندسة من تطور وتقدم، لاسيما فـي قدرة العاملين آنذاك فـي سحب المياه عبر تلك المسافة الطويلة وعبر مرتفعات ومنخفضات جبلية وأودية وصحاري فعملوا المناسيب المنسابة لمجرى العين والقنوات بالحجر والجص حتى استطاعت المياه الانسياب عبر هذه القنوات والمضخات البدائية بكل سهولة ويسر، حتى وصلت إلى المسجد الحرام بمكة المكرمة مروراً بمناطق المشاعر المقدسة منى وعرفات ومزدلفة.
132 خرزة لاتزال آثارها موجودة حتى اليوم
ويتجاوز طول مسارات عين زبيدة التاريخية في محيط المناسك بمكة 30 كلم. ويبلغ طول القناة 26 كيلومتراً وتتألف من جزئين: الأول منها غير ظاهر (تحت سطح الأرض) يبلغ طوله 16.35 كيلومتر، والآخر ظاهر فوق سطح الأرض يبلغ طوله 9.47 كيلومتر.
ولا تزال آثار القنوات المائية والخرازات قائمة إلى يومنا هذا فـي سفوح الجبال وكأنه قد تم عملها بالأمس، رغم مرور مئات السنين عليها.
على طول امتدادها، تتكون العين من عدد من "الخرزات" التي تسمى كذلك بغرف التفتيش، يبلغ عددها 132 خرزة، وتبدأ العين عند الخرزة التي تحمل رقم 1 في وادي نعمان وتتجه صوب مكة المكرمة، لتظهر في عرفات حول جبل الرحمة في أول ظهور لها جنوب شرقي عرفة، ثم تتجه لتمر ببطن وادي عرنة ومنه إلى منطقة القطانية غرب وادي عرنة، ثم على السفوح الجنوبية والغربية لجبال المنطقة بين عرفات ومزدلفة.
ثم تظهر القناة مرة أخرى في حي العزيزية بمكة المكرمة في أماكن عدة، والجزء الأخير منها بعد جسر الملك خالد، وبعد ذلك المكان أزيلت القنوات وبنيت عمارات مكانها. إضافة إلى الخرزات والقنوات، تحتوي القناة على مبانٍ إدارية وخزانات لتجميع المياه وبرك، وغير ذلك.
ويصل عمق هذه القنوات في بعض المناطق إلى 40 مترا تحت الأرض، وتعتمد في تجميع المياه على خزانات تحت الأرض تسمى "بازانات".
وأثناء تنفيذه تم وضع فتحات لقنوات فرعية أقامتها فـي المواضع التي يكون من المتوقع اجتماع مياه السيول فيها؛ لتكون هذه المياه روافد تزيد فـي كمية المياه المنقولة إلى مكة المكرمة عبر القناة الرئيسة، ومن هذه القنوات الفرعية التي خصّصتها للمياه الإضافـية السيلية فـي الطريق: عين "مشاش" وعين "ميمون" وعين "الزعفران" وعين " البرود" وعين "الطارقي" و"عين تقبة" وعين "الجرنيات"؛ وكل مياه هذه القنوات الفرعية تصبّ فـي القناة الرئيسة، وبعضها يزيد سنويًا، وبعضها ينقص بحسب الأمطار الواقعة على جهاتها من وادي نعمان إلى عرفة. يعتبر المشروع من أعظم الأماكن التاريخية الهامة في المملكة، والتي لا يزال آثارها قائمة منذ مئات السنين حتى يومنا هذا، وخلد معه تاريخ هذه المرأة العظيمة التي كان هدفها سقاية الحجاج.
يتحدث كثيرون عن غزارة المياه المتدفقة من هذه العين، وكيف أنها كانت تسقي المزارع والحقول التي تقع على مسارها، حيث كانت مزاراً سياحيا وريفياً لأهالي مكة والطائف، لا سيما قرى الزيمة، والوكف والمضيق.
وبسبب ندرة الأمطار، بدأ منسوب مياه هذه العين بالانخفاض قبل نحو عشرين عاماً حتى جف ماؤها، لتبقى هذه العين شاهداً تاريخياً على حضارة المسلمين على مدار التاريخ.
عين زبيدة فـي عهد الدولة السعودية
وانطلاقاً من أهميتها، تم في عهد المؤسس الملك عبد العزيز إنشاء إدارة خاصة لإدارة العين سُمّيت بـ"عين زبيدة" تشرف إشرافًا كاملاً على العين والآبار الخاصة بها وترميمها، وقد قام الشيخ عبد الله الدهلوي بأمر من الملك عبد العزيز بعمارة عين زبيدة لسنوات عدة.
وإزداد الاهتمام بعين زبيدة، فصدر أمرين ساميين من خلالهما تم منح الأراضي الواقعة على جانبي الطريق الأسفلت لعين زبيدة لوقفية العين، وتضمنا: تسجيل الأراضي الحكومية التي مرت بها مواسير العين للاستفادة منها في صيانة وإدارة المشروع، وتسجيل تلك الأراضي للعين للإستفادة منها كدخل ثابت للإنفاق عليها، وتسجيل أراضي ريع كدي المملوكة للحكومة باسم عين زبيدة والعين العزيزية بمكة المكرمة، حيث إن شرط الواقفة رحمها الله هو سقيا مكة المكرمة.
ولاتزال الأبحاث والدراسات مستمرة للنهوض بعين زبيدة.